قيَّض الله تعالى من يجدد الحكمة في روح الأمة الإنسانية، وينشر معالم الخير فيها، ويعمل على بناء معاني الخشية والفهم الصحيح فيها، ويجدد لها أمر الأخلاق والدين فيها، وعلى رأس أولئك المجددين الأنبياءُ والمرسلون، ومن سار على دربهم من الصالحين والمصلحين، والمربين الموجهين، في كل وقت وحين، وإن من أجل هؤلاء نجد الإمام ابن عطاء الله السكندري، الذي ألف نخبة من الحِكَم والوصايا والدرر العطايا. وحِكَم ابن عطاء الله هي عصارة تجربة روحية، وسياحة فكرية في عالم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجارب السلف الصالح، وتتعلق بمعلمين كبيرين من معالم الدين وهما العقيدة والأخلاق، وهما معلمان يشترك فيهما كل الرسالات والأنبياء، وتجمع بين مختلف الملل والنحل، بخلاف الشرائع الفقهية، فإن لكل أمة فروعها وشرائعها، قال تعالى: ” لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” [المائدة: 48] وقد جمع ابنُ عطاء الله تلك الحِكَم لتكون زاداً يعين على فهم روح القرآن الكريم، واستبصار مبانيه ومعانيه، وأبدع رحمه الله التصنيف في أحوال ذلك، وجمع فيها....
قد قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” البقرة 269، قال أبو جعفر الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا، وقال جمهور المفسرين: الحكمة فهم القرآن والفقه به، وقيل هي النبوة، وقيل الخشية، إلى غير ذلك من الأقوال، ولا تعارض بين ذلك كله، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره ، فهما خاشيا لله : فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة، ومعنى الآية: إن الله يؤتي الصواب في القول والفعل لمن يشاء، ومن أحب من خلقه، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا، وقد ورد في....
لما كانت الغاية من الدعاء إنما هي حصول المراد، نبّه ابن عطاء الله السكندري هنا إلى خطورة استعجال ثمرته إبّان الدعاء، والإلحاح في ذلك، وينسى هذا الإنسان المستعجل أن الله الحي القيوم على مصالح عباده قد جعل لكل شيء أجلا محددا ووقتا معلوما في علمه سبحانه، تتحقق به مصلحة الناس وسعادتهم، قال تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستعجلون". يقول ابن عطاء الله السكندري : "لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ"، والإلحاح فى شىء ما هو: تكرره على وجه واحد، والدعاء هو: طلب مصحوب بأدب فى بساط العبودية لجناب الربوبية والموجب للشىء ما كان أصلا فى وجوده، و اليأس قطع المطامع. والمؤمن يتعلق قلبه بمسألة يرجوها أو حاجة يرغب فيها ولكنه يتأدب في ذلك مع القدر والقضاء ويرجع فيه إلى وعد الله وعلمه،....
الإجتهاد في الشيء إستفراغ الجهد والطاقة في طلبه، والتقصير هو التفريط والتضييع، والبصيرة ناظر القلب كما أن البصر ناظر القالب. فإذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته وفي الباطن بمحبته ، فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة ، حتى يستولى على البصر فيغيب نور البصر في نور البصيرة فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة. وإذا أراد الله خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان وفي الباطن بمحبتها ، فلا يزال كذلك حتى ينطمس نور بصيرته فيستولى نور بصره على نور بصيرته ، فلا يرى إلا الحس ولا يخدم إلا الحس ، فيجتهد في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم ويقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم. قال الشيخ زروق وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنهما: البصيرة كالبصر ، أدنى شيء يقع فيه يمنع النظر، وإن لم ينته إلى العمى، فالخطرة من الشيء تشوش النظر....
إذا كانت الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، فالتدبير والاختيار والتخطيط لشؤون الحياة وضروراتها، كل ذلك مطلوب، ولكن وفق سنة العبودية، واستخارة علم الله، دون تعسف ولا تكلف، ولذا فالمؤمن يريح نفسه من التدبير الممقوت وهو ما كان على خوف من المستقبل وطمع بلا حدود، واهتمام زائد، يأخذ بالأسباب المطلوبة، ويعلم أن الخير كله فيما يختاره الله، ولذلك قال: "أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك". والتدبير على ثلاثة أقسام: مذموم ومطلوب ومباح. فأما التدبير المذموم فهو التدبير المصاحب للتكلف والهمّ والجزم والتصميم من غير استخارة الله وطلب حوله وقوته، وهو منهي عنه لأنه يناقض حقيقة العبودية. وأما التدبير المطلوب فهو التدبير في الواجبات والطاعات مع تفويض المشيئة والنظر في القدرة الإلهية، وهذا يسمى بالنية الصالحة، ونية المؤمن خير من عمله، يقول النبي ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَال" إِنّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا....
إذا كان مصطلح الهمّ يطلق على بداية الإرادة وأولها، فإن الهمة تطلق على مرحلة قوة الإرادة ومنتهاها، وتوصف بالعلوّ والسبق، كما توصف بالسفول والتخلف، وتعرّف الهمّة العالية بكونها عبارة عن استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وذلك حين يتوجه القلب ويقصد بكليته وجميع قواه الحسية والمعنوية جانب الحق والخير لحصول الكمال الممكن، غير أن همَّة الإنسان مهما علت، وقوةَ انبعاث قلبه مهما سمت، فإنهما لا يخرقان أسوار قضاء الله وقدره، ولا يكون شيء منهما في هذا الكون إلا بإرادة الله وقضائه، فهما يدوران مع القدر كيفما دار، لا حول لهما ولا قوة إلا بالعزيز القهار، «وكان الله على كل شيء مقتدرا» الكهف: 45 عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: « كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» رواه مسلم وأحمد وابن حبان ومسلم والبيهقي، ومعنى ذلك أن اجتهادَ المرء أمرٌ مطلوب، ولكن هذا الأمر مهما بلغ من الإحكام والإتقان لازمٌ وعاجزٌ عن خرق....
التجريد في اللغة معناه الإزالة، ويقصد به هنا ترك الأسباب الدنيوية، والخروج من أسباب الدنيا، وطلب العيش، و كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، والابتعاد عن كل وصف يباعد عن مشاهدة الله ومحبته. ومعنى الحكمة أن من آداب الإسلام ومن حكمة الإيمان، أن يرضى المؤمن بما اختاره الله له، يقول النبي ﷺ: “وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”، وليس معنى هذا أن لا يأخذ الانسان بالأسباب، فالأخذ بها واجب، ولكن القلب متعلق باختيار الله، ” وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” القصص: 68 فالمؤمن يقيم فيما أقامه الله، في عالم الجمال وعالم الجلال، في السراء والضراء، في المنشط والمكره، يعيش واقعه ويأخذ بأسباب الحياة، وهو موقن بالمشيئة الإلهية، والتدبير السابق في علم الله، يعلم أن الحق تعالى هو الذي ينقل من حال إلى حال، ” يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ” النور:....
.من أبرز الدلائل على اعتماد الإنسان في نيل المرغوب على عمله، نقصان رجائه عند الوقوع في الذنب، فالمؤمن لا يعول لنيل رضا الله على عمله الصالح، بل على لطف الله، صاحب التوفيق والفضل قال رحمة الله عليه: مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ، نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّللِ. ابتدأ ابن عطاء الله حكمه بهذه الحكمة؛ وفيها تأكيد على أهمية التوكل على الله المتأصلة في خطاب القرآن الكريم والسنة النبوية، فالنفس الإنسانية حينما يخونها التوفيق تأنس بالسبب وتتناسى المسبب، وتعتمد على المفعول وتتجاهل الفاعل حقيقة، والمؤمن اعتماده على ربه وخالقه، لا على نفسه وعمله، وحينما يقع الاعتماد على العمل فذلك دليل على انطماس الرؤية، وانحسار البصيرة، فما الدليل على الاعتماد على العمل يأتي الجواب من ابن عطاء الله ويقول: مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ، نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّلل. والمعنى أن من علامات الاعتماد على العمل الإعجاب به، ونسيان رؤية المنة والتوفيق من الله ة فيما يجري الله لك من الطاعات، وينشأ عن....