قيَّض الله تعالى من يجدد الحكمة في روح الأمة الإنسانية، وينشر معالم الخير فيها، ويعمل على بناء معاني الخشية والفهم الصحيح فيها، ويجدد لها أمر الأخلاق والدين فيها، وعلى رأس أولئك المجددين الأنبياءُ والمرسلون، ومن سار على دربهم من الصالحين والمصلحين، والمربين الموجهين، في كل وقت وحين، وإن من أجل هؤلاء نجد الإمام ابن عطاء الله السكندري، الذي ألف نخبة من الحِكَم والوصايا والدرر العطايا.
وحِكَم ابن عطاء الله هي عصارة تجربة روحية، وسياحة فكرية في عالم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجارب السلف الصالح، وتتعلق بمعلمين كبيرين من معالم الدين وهما العقيدة والأخلاق، وهما معلمان يشترك فيهما كل الرسالات والأنبياء، وتجمع بين مختلف الملل والنحل، بخلاف الشرائع الفقهية، فإن لكل أمة فروعها وشرائعها، قال تعالى: ” لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” [المائدة: 48]
وقد جمع ابنُ عطاء الله تلك الحِكَم لتكون زاداً يعين على فهم روح القرآن الكريم، واستبصار مبانيه ومعانيه، وأبدع رحمه الله التصنيف في أحوال ذلك، وجمع فيها بين العبارة المعبرة، والإشارة المشعرة، بين العلم الذي يبصِّرُ المؤمن ويهديه، والأنفاس التي تدفعه وترقيه، تبني الروح والوجدان، وتورث الحركة إلى المعالي والعرفان، وتعين على السير في مفازات الميدان، يعرف ذلك من نظر وتأمل فيها، واعتنى بمبانيها، واجتهد في الوقوف على معانيها.
1. ولادة ابن عطاء الله ونشأته:
ولد الإمام ابن عطاء الله شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي بالقاهرة عام (658هـ) وتعلم منذ نعومة أظافره العلومَ الدينيةَ والشرعيةَ واللغويةَ، وتميزت رحلته العلمية بميزة تتمثل في الجمع بين علوم الشريعة وفقه التربية والسلوك، حيث أخذ عن الإمام أبي العبس المرسي والذي أخذ بدوره عن الإمام أبي الحسن الشاذلي عن الإمامين مغربيين كبيرين في علم التصوف السني والسلوك والتربية وأعني بذلك الإمام عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم بتطوان المغربية، والإمام محمد بن حرازم دفين فاس بالمغرب، وبهذا السند المتصل إلى إمام المدرسة العرفانية الشيخ أبي القاسم الجنيد استطاع الإمام ابن عطاء أن يكون أَحد فقهاء عصره الجامعين بين فقه القالب والقالب، والروح والجسد، والشريعة والحقيقة، والمباني والمعاني.
وبعد عمر قضاه في خدمة العلم والشريعة والسلوك، توفي ابن عطاء الله السكندري تاركا ورائه العديد من الكتب والحكم عام تسع وسبعمائة (709 هـ) في القاهرة.
2. مؤلفات ابن عطاء الله:
ألف ابن عطاء الله العديد من المؤلفات، منها كتاب ( التنوير في إسقاط التدبير )، وكتاب ( لطائف المنن )، وكتاب ( مفتاح الفلاح ) وكتاب ( تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس ) وكتاب ( الحكم العطائية )، وهو موضوع مؤلفنا وحديثنا، ويمكن اعتباره أشهر ما وصلنا من مؤلفات ابن عطاء الله ومصنفاته، وقد كتب الله له القبول والانتشار، حتى ترجم إلى العديد من اللغات العالمية، ولا يزال يُدرس في بعض المعاهد والمراكز شرقا وغربا.
وحكم ابن عطاء الله عبارة عن مجموعة من الحكم والأقوال البليغة، تبلغ 264 حكمة، تعكس خبرة علمية، نعتبرها عصارة فهم دقيق لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأحوال السلف وما ذهب إليه جماعة المسلمين في العقيدة والدين والتربية والسلوك.
وقد تصدى العلماء قديما وحديثا لحكم ابن عطاء الله بالشرح والتعليق والبيان، وألفوا في ذلك مؤلفات عديدة، ومن بينها:
1- (غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية) للإمام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفري الحميري الرندي الأندلسي ، المعروف بابن عَباَّد النفَّري (733 -792 هـ)
2- (شرح حكم ابن عطاء الله) للإمام أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البُرنسي زروق الإمام أحمد زرّوق (846 – 899هـ)، وشرحه هذا من أحسن الشروح، وله كذلك شروح أخرى على الحكم ذكرها في مقدمة كتابه أنها بلغت 16 شرحا
3- (شقائق الأكم بدقائق الحكم) للإمام الفقيه المؤرخ رضى الدين محمد بن إبراهيم بن يوسف الحنفي الحلبي القادري التادفي المعروف بابن الحنبلي 908 – 971هـ
4- (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) للإمام العارف الشهير شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الأنجري 1160– 1224هـ، راعى في شرحه التوسط بين المعنى وتحقيق المبنى
5- (الملتزم الجامع لمعاني الحكم) للإمام محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام بن كيران المالكي الفاسي 1172 – 1227هـ، منه نسخ خطية في مكتبات فاس والرباط،
6- (تلخيص الحِكَم ) للشيخ نور الدين بن عبد الجبار بن نوري بن أبي بكر بن زين العابدين ابن شمدين الحسيني البريفكاني النقشبندي 1207 – 1268هـ، وهو شرح منظوم لحكم ابن عطاء الله، نظم في كل حكمة نظما لطيفا ميسرا للحفظ،
7- (الغيث المنسجم في شرح الحكم) للإمام أبي بكر بن محمد بن عبد الله البناني الرباطي ت 1284هـ،
8- (شرح الحكم العطائية ) للشيخ عبد المجيد الشرنوبي المالكي.
9- (المنهج الأتم في تبويب الحكم) للإمام المحدث علاء الدين علي بن حسام الدين عبد الملك بن قاضي خان القادري الشاذلي المعروف بالمتقي الهندي، بدأه بباب العلم، ثم باب التوبة، ثم باب الإخلاص في العمل، باب في الصلاة، باب العزلة والخمول، باب في رعاية الوقت واغتنامه، باب الذكر، باب الفكرة، باب الزهد وفضيلته… وهكذا. (30) باباً.. ثم المناجاة.
10- (الحكم العطائية شرح وتحليل) للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وغيرها من المؤلفات.
وقد كنا اشتغلنا على حكم ابن عطاء الله مرارا عديدة في خطبنا ومواعظنا وبرامجنا الإعلامية ورأينا فيها تأثيرا عجيبا على النفوس، وإقبالا منقطع النظير من لدن الناس، وها نحن الآن نستجمع القوة، ونتوكل على الله، ونجمع تلك الجهود في ملخص واحد، نرجو الله أن يكون نفعه عاما، وأن يجعله رحمة لكاتبه وقارئه، وبركة في البلاد وعلى العباد، وأن يرزقه القبول، وينفع به، والله من وراء القصد، والقادر عليه.
ونحن، مع ذلك، على يقين أننا لا نروم استيفاء جميع ما اشتملت عليه هذه الحكم العطائية، وما تضمنته من المعاني والمفاهيم، فهي كما قال بعض شراحها منطوية على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا صاحبها، ولا تتبين حقائقها إلا من خلاله، ونحن في هذه الحلقات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها، غير مدَّعين شرحا لكلام ابن عطاء، ولا أن ما سنذكره هو حقيقة مذهبه، ولكننا نجتهد في تقريب المعاني الكبرى والمفاهيم العظمى بأيسر عبارة، وأقرب إشارة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فإن وافقنا فيه حقيقة الأمر، كان ذلك من النعم التي لا نحصي لها شكرًا، وإن خالفنا ذلك، أحلناه على نقصنا وجهلنا.